التتنمية الترابية وأزمة الفاعلين الترابيين
بات التطور الذي تواكبه الجماعات الترابية و الاختصاصات التي منحت لها بمقتضى الدستور و القوانين التنظيمية، يفرض توفرها على موارد بشرية قادرة على عكس الصورة الصحيحة التي رسمت لها في لوحة التنمية الشاملة لكافة المجالات، كما تعكس المسؤوليات التي
وضعها المشرع على عاتقها ، فقد أصبحت الجماعات الترابية مدعوة إلى جانب الدولة و باقي الفاعلين خصوصا القطاع الخاص، إلى مقاطعة التسيير التقليدي و البحث عن الصفات الفاعلة باستلهامها من فكر المقاولات، و عليه يجب على المسيرين و الفاعلين داخل هذه الجماعات أن يتحلوا بصفات المدبر المقاولاتي، بشكل منسجم و متكامل
فمكانة الجماعات الترابية الحالية جعلت منها مقاولة تتطلب وجود رئيس يتسم بمواصفات المقاول الناجح، إلى جانب مستشارين أدرى بالمشاكل المحلية و متمكنين من الأدوات التي تساهم في حلها، من تشخيص و تتبع و تقييم و محاسبة الذات، و الانخراط التشاركي مع الفاعلين و الهيئات لتجاوز الأزمات المطروحة، و الحقيقة أن واقع الموارد البشرية يشمل كافة الفاعلين في المقاربة التشاركية، خصوصا على المستوى الترابي، من مستشارين و موظفون و أحزاب و مجتمع مدني و نخب محلية، و إن وقفنا على كل منها على حدى، سنجدها تواجه تحديات كبيرة تحول دون جعلها فاعلا حقيقيا في الممارسة التشاركية، فكيف ينعكس الفراغ الذي تعانيه الجماعات الترابية في شق الفاعلين الترابيين على أدائها الوظيفي؟
أولا: المستوى التعليمي للمنتخبين
لقد أثار عدم التنصيص على مستوى تعليمي لتولي رئاسة الجماعات الترابية، جدلا كبيرا وواسعا بين المحللين السياسيين و الاجتماعيين، فالاختصاصات التي تسند لرؤساء المجالس الترابية، سواء كانت ذاتية أو مشتركة أو منقولة، تستوجب وجود تكوين جيد يتمتع به الشخص الممارس لهذه الصلاحيات و الاختصاصات، نظرا لحساسياتها و تأثيرها على الفعل العمومي المحلي، فلا يعقل أن يشرف شخص أمي أو ذو مستوى تعليمي لم يتعدى الابتدائي على إعداد برنامج عمل الجماعة مثلا، فذلك سيؤثر سلبا على سير هذا البرنامج خصوصا مع انعدام الخبرة و التجربة وروح المبادرة، فأحيانا يمكن للفرد رغم ضعف مستواه التعليمي أن يتمكن بفعل خبرته و تجربته من النجاح في مشروع معين، إلا أنها فرضية نسبية، و يرتبط المنتخبون بثلاث علاقات، علاقة مع السلطة، و علاقته مع المجلس، ثم علاقة مع السكان
فعلاقته مع السلطة يجب أن تسودها نوع من التكامل و التمازج و التطابق و التعايش، إلا أن الملاحظ أنها تعاني من عجز مزدوج و أحيانا متعدد الاتجاهات، حيث نجد عجز على المطابقة وعجز على مستوى المسايرة في التوجهات العامة في تدبير الشأن العام المحلي خاصة حينما تصطدم الوصاية مع النزعات الانتهازية لرئيس المجلس، كما هناك صراع من نوع آخر حينما ترفض السلطة التواطؤ مع الرئيس حول أسلوب التسيير المالي و الإداري و العكس صحيح، وتختلف تمثلات علاقة المنتخب بالمجلس حسب موقعه داخله، فإذا كان في صف الأغلبية فهو ذو حظوظ للتواصل مع الساكنة و قضاء مصالحهم وقضاياهم الاجتماعية، أما إذا كان في المعارضة فتتقلص نسبة هذا التواصل، لأنه لا يستطيع أن يقضي لهم مصالحهم لأن موقفه ضعيف داخل المجلس
أما علاقة المنتخب بالسكان غالبا ما تكون زائفة، لأنه يستغل فترة الحملات الانتخابية ليوزع الوعود الخادعة مقابل التصويت له، و ما أن يصل إلى مغزاه حتى يكون رماها في رف النسيان ، كما يلجأ المنتخب إلى أسلوب التضليل، بلجوئه إلى عنصري السيرة المجهولة سياسيا و اجتماعيا من قبل الفاعلين الآخرين في عملية التفاعل والتواصل الاجتماعي من خلال رسم فكرة للقوانين و الأنظمة من قبل أشخاص استطاعوا فرض هذه الفكرة، لمنع آخرين من المشاركة بشكل كامل في عملية صنع القرار و بلورته
لذلك فقد ارتفعت مؤشرات انعدام الثقة في المنتخبين، التي تترجم في القطيعة و العزوف عن التصويت، مما يؤثر سلبا على تدبير الشأن المحلي، و تراجع مشاركة النخبة المحلية في بلورة دورها التشاركي في صنع القرار المحلي
ثانيا: جمود الأحزاب السياسية
أصبحت الأحزاب السياسية بالمغرب عاجزة كل العجز عن القيام بمهامها التي نص عليها الفصل 7 من دستور 2011، من تمثيل و تأطير و منافسة، فقد أضحت الحياة السياسية بالمغرب تعاني من تراجع ملحوظ في التمثيل السياسي، و محدودية تأثير العمل الحزبي في النسيج الاجتماعي، فعدم قدرتها على القيام بأدوارها أظهر ضعفها الوظيفي في التأطير، و تكوين و تأهيل أطر ذات كفاءة عالية تساهم إلى جانب الدولة في تدبير الشأن العام
وعجز الأحزاب عن التأطير يعود إلى عدم قدرتها على التغطية التامة للدولة، لأنها أحزاب حضرية، تتوفر على مقرات و فروع أثناء الحملة الانتخابية لتغطية الدوائر الانتخابية لمرشحيها، كما أنها لا تتوفر على المعلومات الدقيقة و السليمة حول حجم الانتشار التنظيمي لها، وغياب تقارير مفصلة بهذا الصدد، كما بات دور الأحزاب السياسية وسبب وجودها محصورين في المنافسة السياسية، الشيء الذي يترجم تعدد الأحزاب بالمغرب، و تعدد البرامج الانتخابية، كما تعد انتقالات أعضاء البرلمان من فريق نيابي إلى آخر، أو من حزب سياسي إلى آخر، من أبرز المؤشرات على تنامي الانتماء الحزبي القائم على الاقتناع بمرجعية الحزب و مبادئه، بل باتت الأحزاب مجرد قنوات يسلكها الأشخاص لقضاء مصالحهم الخاصة، أضف إلى ذلك ضعف المعارضة، فهذه الأخيرة تجعل من الأحزاب التي تحظى بها تجري وراء كسب رضى الشعب للفوز في الانتخابات المقبلة و الانتقال إلى قائمة الأغلبية لممارسة السلطة و الاكتفاء بالمراقبة الصامتة، كلها عوامل تترجم سبب تراجع نسبة المشاركة السياسية بالمغرب بين استحقاقات 2011 و 2016، حيث انتقلت من 45.4% إلى 43%، بتراجع 2.4 -%، فالمواطن فقد ثقته في هذه الأحزاب التي تستخدم غطاء الدين أو المال لتؤثر على المصوت خصوصا في المجال القروي، وهو أمر يحيل على انعدام الشفافية و روح الحكامة في هذه الانتخابات
ثالثا: ضعف الأداء للموظفين الترابيين
لازالت تعاني الجماعات الترابية من أزمة الموظفين، نظرا لعدة اختلالات، على رأسها اختلال التوزيع الكمي بين موظفي الجماعات الترابية و الضعف النوعي للموظفين الترابيين، فأغلب الموظفين ينتمون إلى فئة اليد العاملة و الأعوان مقابل نقص في الأطر العليا، أي أن الجماعات الترابية تشغل اشخاصا غير مؤهلين، و يظهر ذلك من خلال التركيز على أعوان التنفيذ عوض استقطاب الأطر العليا و المتوسطة المتمتعة بالكفاءة و المهارة، ومن أسباب وجود هذه الظاهرة، تخويل رؤساء المجالس صلاحيات التوظيف في السلالم من 1 إلى 9، مما أدى إلى امتلاء الجماعات الترابية بموظفين تغيب عنهم الكفاءة، حيث يتم توظيفهم عن طريق الولاءات السياسية و الحزبية و الزبونية و المحسوبية.. إن علاقة الموظفين في البلديات مع المواطن، تعاني من ضعف الإرادة السياسية والإدارية والفنية و التقنية، مع ذلك لديها بعض نقاط القوة التي تميزها عن باقي العلاقات الموازية بالإدارات الإقليمية والوطنية، فهي منظمات أصغر وأكثر ديمقراطية لأنها على اتصال مباشر مع المواطنين، ومن المؤكد أنه في السياقات الاجتماعية والاقتصادية الحديثة، توفر مشاركة الموظفين العموميين في مشاريع التنمية المحلية على نحو أكثر مرونة، وإن غابت هذه المقومات، يجب على السلطات العمومية تهيئة الظروف الخارجية للتنمية المحلية
رابعا : أزمة الجمعيات المدنية
الجمعيات المدنية أصبح بعضها يؤسس بناء على التبعية الحزبية وخدمة المصالح أثناء الانتخابات، فهناك أحزاب باتت تتصدر الانتخابات بسبب توفرها على تكتلات جمعوية هائلة، تمكنها من الحصول على أصوات لا يستهان بها، فثقافة التسييس فرضت وجودها على اغلب القوى المدنية، رغم كل المحاولات الدستورية و القانونية لقطع هذا الوصل، كما نرى أن كثرة الجمعيات ذات الأهداف المتشابهة يثقل عاهل البنية المدنية، حيث تضيع الأهداف الحقيقية لتأسيس الجمعية، و تكرر الأنشطة و تميع، مع استنزاف الدعم المالي المقدم لهذه الجمعيات في أنشطة تعد جد ثانوية أحيانا، لذلك لابد من توحيد الجهود وتركيز الأهداف بين جمعيات المجتمع المدني، و تسليط الضوء على القضايا المحلية ذات الأولوية في كافة المجالات، و تفصيل محاورها وتوزيع الأدوار، ثم تتبع و تقييم حصيلة العمل بشكل جاد ينطلق من المحاسبة و التعلم من الأخطاء، لكسب أقصى قدر من التجربة و المكتسبات
ومن بين الأزمات التي يعرفها النهج التشاركي هو أزمة النخبة المحلية، التي تتميز بكونها قادرة على التوجيه و التأثير في القرار المحلي والسكان، تتمتع بقدرات في توجيه الرأي العام المحلي عبر القرارات التي يتم بلورتها انطلاقا من طلبات اجتماعية محلية
فالنخب السياسية في المغرب لم تنجح في استثمار المكاسب السياسية التي حققها المغرب عقب دستور 2011، حيث يعاني المشهد السياسي حالة ركود وتكلس فكري وضمور للممارسة الديمقراطية الداخلية، نتيجة براغماتية التحالفات الحزبية، والثقافة السياسية الجديدة، وهو ما أدى إلى عزوف الفئات الشابة عن المشاركة في الحياة السياسية وضعف التفاعل لتراجع الأداء السياسي للنخب، وما يستدعي طبقا لذلك ضرورة إعادة تشكيل وتجديد المشهد السياسي المغربي، ونجم عن ذلك تجلي أزمة واضحة داخل النخبة السياسية بالمغرب أدت إلى انقسامات كثيرة أضعفت المشهد السياسي وشتتت أحلام وقناعات النخب السياسية، لتغرس عوضا عن ذلك أوهام الترقي الاجتماعي، وتملك الجاه المجتمعي ومراكمة النفوذ والثروة
وخلاصة القول، أن الإكراهات التي تواجهها الجماعات الترابية على مستوى المواد البشرية اليوم في المغرب تحتاج إلى التخلص من كل ما هو تقليدي، و اعتماد أسلوب المقاولة على المستوى التدبيري، بفتح الأبواب أمام الاستثمارات الخارجية، و إعادة التفكير في تقوية العلاقات بين كافة الفاعلين، لضمان إنتاجية محلية ذات جودة عالية تعود بالنفع على التنمية الترابية، ولا يمكن إنكار النية القوية للمغرب ا في بناء إدارة متكاملة تسير على خطى إنضاج مبادئ الحكامة ، و تقديم نموذج تنموي ترابي، و ذلك يقع على عاتق كل من الدولة و المواطن و الأحزاب السياسية و الجمعيات : المدنية، لذلك لا بد من تقوية أدوار الفاعل العمومي من خلال ما يلي
اشتراط مستوى تعليمي ملائم في المنتخب الترابي، و تضمين هذا الشرط في القوانين التنظيمية و النظام الأساسي للمنتخب
محاسبة الأحزاب السياسة عن إنتاجية أدوارها التأطيرية و التمثيلية، وتقوية دور المعارضة. ضرورة إخراج قانون الوظيفة العمومية الترابية لسد ثغرة انتماء الموظف الترابي لنظام الوظيفة العمومية الشيء الذي يطرح تناقضا بين الانتماء الإداري و الانتماء الوظيفي، وضمان أجور ملائمة للمردودية الوظيفية و اعتماد التحفيز عن طريق سن نظام للتعويضات يتلاءم مع مهامه، إضافة إلى السهر على تكوينهم، مما سيوفر نوعا من الكفاءة داخل الإدارة الترابية
تقنين التعددية الجمعوية بتوحيد الجمعيات ذات الأهداف المتماثلة