العدالة بين الفلسفة و القانون
مقدمة الكتاب
المقدمة
إن القضايا التي تخص الإنسان وسلوكه وفكره متشعبة ومتفاوتة من حيث الأهمية، وأهمية هذه القضايا تقدر بمقدار ما تتركه من أثر في واقع حياة الإنسان والمجتمع ، ولا شك ان العدالة القضية الكبرى التي تجتمع فيها المبادئ مع التطبيق ، الفكر مع السلوك ، فلقد كانت ولا زالت إشراقة رسالات السماء ومحور إنطلاقتها ولأجلها تتابع موكب الأنبياء والمرسلين ” عليهم الصلاة والسلام ” ، إذ قال تعالى : (( لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس)) . فالعدالة هي الميزان والقسط إتجهت شرائع السماء ورسالات الأنبياء صوب ترسيخ القسط الميزاني والميزان المقسط ، بالوعـد والوعيد والحد والحديد ، كي تستكين النفوس ويستقيم السلوك ويستقر الميزان ، ومن ثم ينل الإنسان قسطه العادل من التكريم الذي وهبه الله عز وجل إياه ، ويجد نفسه في موضعه اللائق به في هذا الكون بعيداً عن القلق والظلم والإضطهاد .
أجل أن لكل مجتمع مستنير أهـدافاً معينة متماسكة (منسجمة) إنسجاما مع بعضها يجسد القانون في نظر فلسفة ذلك المجتمع، بيد أن هذا لا ينفي وجـود غـرض أعم من ذلك يسعى إليه القانون أو ينبغي أن يسعى إليه في كـل مكـان، و ذلـك مر العدالة ، فالعدالة تعد أهم قضايا الإنسان الرئيسة إذن التي شغلت و تشغل دائماً و أبدأ بل العالم، فهي قضية الحكام والحكماء والمحكومين في وقت واحد و هي عالمية المحمل أبدية الوجود ، وأهمية العدالة تكمن في أنها تعود مناصريها أن لا يرضوا بالقليل ، أن لا يغنوا بالماضي ، أن لا يحمدوا على الحاضر ، أن لا يحلمـوا بالمستقبل ، بل تعلمهم أن يصبحوا الماضي ذريعة لتحسين الحاضر ، وهذا الأخير الهدف لتملك المستقبل ، فالعدالة لا تتماشى ابدأ مع الثمني والترجي لأنها تقطع التعـدي وتغذي التحدي ، فإن دراسة هذه القضية تتسم بالعمق والمنعة و تقتضي الغوص في بنية المجتمع البشري روحاً و تنظيماً فهي أكبر من أن تغطـي هـذه الدراسـة كـل دقائق تفاصيلها، خفاياها و أسرارها، لذا تحاول أن تركز على بيـان جـانيـهـا القانوني من خلال التعرض إلى معطياتها الفلسفية والأخلاقية، طامعين في ذلك أن تصبح العدالة مادة الدراسات القانونية، لتكون منطلقاً يتطلع من خلاله لبناء مجتمع قانوني عادل، و هذا لا يتحقق إلا بإعتناق المشرع العدالة و تمسك القاضي بهـا، وهـذا لا يتأتى إلا من خلال التعرف على حقيقتها، و معرفة حقيقة كل شيء تقوم على دراسة هذا الشيء يتأمله و تمعنه و تعمقه، فتحاول هذه الدراسة أن تقدم شيئاً مـن هـذا القبيل بما أن هذه الدراسة متعددة الجوانب متشعبة الأبعاد و مترامية الأطراف، فإن المنهج الذي أتبعناه تحليلي ومقارن تعتمد على الإستقراء والإستنباط والمقارنة للآراء والنصوص ، وذلك من خلال تحليل الآراء الفلسفية والنصوص القانونية التي قيلت أو وردت بشأن العدالة وتركز في ذلك على الفلسفة القديمة بشكل أساس باعتبارها الأكثر تطرقاً الى تحليل العدالة، وعلى القانون الإنكليزي . بناها .على الأعتبار نفسه وبعد ذلك تحاول ان نظهر معنى العدالة في الفلسفة الإسلامية لاسيما عنـد المتكلمين الذين كثروا الكلام فيها ، بعد ذلك نبتغي ان نبين معنى ومكانة العدالة في الفقه الإسلامي. ومـن ثـم تحـاول ان تحلل أثـر العدالة في القاعدة القانونية ومكانتها في القانون المدني العراقي و في الختام ان هذه الدراسة لا تكون بمنأى عن الصعوبات، لأن الكلام عن العدالة من جانبها القانوني يستلزم التطرق إلى أبعادها الفلسفية والأخلاقية
والمنطقية وذلك يستوجب التعامل مع نصوص الفلسفة وعلم الأخلاق والمنطق في آن واحد، وهذا الأمر على الرغم مافيه من الإرهاق فانه يتطلب الإطلاع على عدد كبير من المصادر قد يفوق طاقة الإنسان ، وكذلك عند مناقشة المواضيع الجدلية مثل العدالة ، لربما قد تطغى على الباحث أفكار ونظرات شخصية وأحكام مسبقة ، وهذا صعوبة بحد ذاتها ، حتى حدث هذه الصعوبة ببعض أن يحكموا على العدالة
حكم مسبق ، وأن ينظروا إليها نظرة شخصية ، وذلك بوصمها فكرة نسبية ومثالية لا يكون لها في الواقع للتطبيق محل ، نحن ندرك تينك الصعوبتين ، نسعى أن نتجاوز الأولى ، ونتعامل بحذر شديد مع الثانية ، متمسكين بالموضوعية ، وحياد وتجرد تامين » بحيث لا ترجح من دون مرجح ، ولا تقبح ولا نستحسن لقبح في الظاهر أو لحسن .
وإنما لقوة الأثر في المضمون ، ولا نبدي رأياً من غير دليل ، وأخيراً أجعل هذا الكلام الطريف خاتماً لمقدمتي ، إذ قال القاضي الفاضل عبدالرحيم علي البيساني : (( إني رأيت أنه لا يكتب إنسان كتاباً في يومه إلا قال في عدم : لو غير هذا لكان أحسن ،ولو زيد كذا لكان يستحسن ، ولو قدم هذا لكان أفضل ، ولو ترك هذا لكان أجمل ، وهذا من أعظم العبر ،
ر دليل على إستيلاء النقص على جملة البشر )) .