تحسين مناخ الأعمال وتشجيع الاستثمار بالمغرب
نظرا للطفرة الاقتصادية التي أصبحت يعرفها العالم ، و المغرب بدوره يشهدها في مختلف المجالات بما فيها المجال الاقتصادي ، من خلال ما يعرف من استقطاب للاستثمارات الأجنبية ، و تشجيع الاستثمارات الداخلية ، مما فرض على المشرع أن يدعم البنيات الاقتصادية وكذا الحقوقية لتكون قادرة على استيعاب مختلف المتغيرات الدولية .
وقد أصبح المنهج الحقيقي لربح رهان التنمية هو الاهتمام بالحكامة الاقتصادية الجيدة التي يقتضي على جميع المتدخلين في العملية الاقتصادية التسلح بقدر من الكفاءة والشفافية ، وحسن تدبير الشأن الاقتصادي العام لا سيما في مؤسسات الدولة ذات الطابع الاقتصادية ، و هو ما يتطلب كفاءة عالية وحنكة في خدمة الصالح العام لأجل النهوض بمكانة الدولة اقتصاديا .
هذا ، و قد أصبح توفير المناخ الملائم للتنمية ، و ترسيخ دعائم الأمن القانوني ، و ما عرفه عالم الأعمال من تدخلات متزايدة للقانون ، و إقبالا مضطردا على العدالة ، بحيث أصبحت الحياة الاقتصادية مطبوعة بالسمة الحقوقية ، وما ذلك إلا نتيجة للعلاقة الجدلية بين الاقتصاد و القانون .
فمتطلبات ترسيخ التنمية الاقتصادية وحمايتها ، وجود عدالة آمنة وضامنة لكل الأنشطة التجارية ، لأن العدل ضمان لكل انفتاح و لكل نشاط . و ما احوجنا اليوم لدولة تسكن إليها النفس و تطمئن لها رؤوس الأموال الأجنبية التي لا تغامر إلا في الدول الموصوفة بدول القانون ،ضمانا المصالحها و تأمينا لتجارتها و صناعتها و ما تجنيه من أرباح ، فالقضاء اليوم لم يصبح فقط أساس الطمأنينة الرعية و المجتمع ، كما أكد على ذلك المغفور له الملك الحسن الثاني رحمه الله في خطابه، ” بل أصبح ضروريا للنماء وإن أفضل وسيلة لحماية الاستثمار هي العدالة ، كما أن التنمية في حاجة الى عدالة فعلية وحقيقية “.
كما أن العدالة تعتبر من المفاتيح المهمة في مجال تشجيع الاستثمار ، فهي دعامة أساسية للتنمية و إضافة نوعية إلى الطاقة الإنتاجية من أجل زيادة الثروات لما في ذلك من أثر في إشباع الحاجات وتوفير الخدمات، كما أن تحقيق الأمن القانوني و الفضائي يساهم ايجابيا في ذلك، فالمستثمر سواء كان وطنيا أو أجنبيا، ومهما بلغت المبادرات التشجيعية فلن يغامر إلا إذا تحقق من وجود فضاء مستقل وفعال يترجم النصوص بما يحقق العدل و الانصاف و المساواة ، وقد عبر عن ذلك المغفور له الملك الحسن الثاني رحمه الله في قوله :” لا يمكن للمغرب أن يفتح أبوابه للمال الأجنبي إذا لم يكن ذلك المال عارفا بأنه في مأمن من الشطط وسوء الفهم فالقضاء أصبح ضرورة للنماء”.
وبهذا يشكل الفضاء أهم مرفق من المرافق العمومية التي حظيت بالاهتمام منذ الحصول على الاستقلال، والملاحظ أن دور لم يعد ينحصر في فض النزاعات بين الطرفين أحدهما ظالم والآخر مظلوم، بل أصبح يلعب دورا مهما في تحقيق التنمية الشاملة وترسيخ دولة الحق والقانون.
وهذا ما تضمنه جزء من الرسالة الملكية التي وجهها صاحب الجلالة الملك محمد السادس لمؤتمر مراكش الدولي حول “العدالة والاستثمار ” ، بحيث جاء في أحد أجزائها :” إن خلق فضاء آمن للاستثمار بأبعاده الاقتصادية والاجتماعية والحقوقية والإدارية والهيكلية، يفرض علينا جميعا اليوم،
بذل المزيد من الجهود في اتجاه ترسيخ دولة القانون، وتعزيز استقلال السلطة القضائية، ودعم التنبؤ القانوني، وتأهيل الفاعلين في المجال الفضائي، وتطوير الإدارة الفضائية، وتعزيز حكامتها، من خلال مقارية شمولية مندمجة، تتعامل مع قضايا الاستثمار في مختلف جوانبها، المرتبطة بالقوانين التجارية والبنكية، والضريبية والجمركية، والعقارية والتوثيقية والاجتماعية، وتستحضر الأبعاد الدولية والتكنولوجية التي تفرضها عولمة التبادل التجاري والمالي والاقتصادي عبر القارات” .
بحيث تزايد الحديث في الآونة الأخيرة عن دور القضاء في حماية الاستثمار ، و هو ما ينم عن درجة الوعي بأهمية السلطة القضائية باعتبارها القاطرة التي يعول عليها لقيادة ركب التنمية .
فالفضاء كما هو معهود له ، تعرض عليه بشكل يومي نزاعات في المجال التجاري و الاقتصادي و المالي ، تفرزها طبيعة التعامل البشري من اجل إيجاد الحلول بشكل يضمن تحقيق ما يتوخاه المشرع من القوانين ذات الطابع المالي و الاقتصادي ، مما فرض عليه أن يطور من آليات تدخله و على رأسها ضمان التخصص الفضائي فالقضاء المتخصص و الفعال في المجال التجاري والإداري والمالي ، لمن شأنه أن يدعم الثقة لدى الفاعلين الاقتصاديين ولدى المستثمرين و طنيين وأجانب على السواء فالثقة في المعاملات كفيلة بتشجيع الاستثمار، وطمأنة الممولين و جل روؤس الأموال ، و بعث حركية في الرواج الاقتصادي ، وليس هناك من ينكر دور القضاء في تأكيد ذلك ، لاسيما إذا كان تحديث القوانين و تعديلها لتصبح مسايرة للمستجدات ، بشكل متوازي مع تحديث العدالة وعصرنتها ، و توفير الوسائل لتكوين قضاة الغد بما يتلاءم والتطورات التي يعرفها عالم المال و التجارة و الاقتصاد .
ومما لا شك فيه ، أن نجاح أي سياسية تروم إصلاح الأوضاع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية لا يمكن أن يتحقق دون إصلاح حقيقي لبعض النصوص القانونية ذات الصلة ، مما يعطي نوع من الأمن القانوني للفاعلين الاقتصاديين ويساعد السلطة القضائية على تحسين مناخ الأعمال ، و من هذا المنطلق نجد المشرع المغربي قد قام بوضع مجموعة من الإصلاحات التشريعية من بينها نصوص
قانونية تهدف بالأساس إلى تحسين هيكلة منظومة المال و الأعمال وتطويرها ، و تنشيط الدور الاقتصادي وجعله أساسا لتنمية الاقتصادية ، ومن بين أهم النصوص الحديثة التي تهيكل مجال الأعمال نجد تعديل بعض نصوص مدونة التجارة ، بالإضافة الى القانون 73-17 المتعلق بصعوبات
المقاولة ، وقانون الشركات ، وكذا القانون المتعلق بالضمانات المنقولة و غيرها من القوانين التي عرفت تعديلات جدرية من اجل مواكبة تطوير منظومة الأعمال .
(1) الرسالة الملكية الموجهة للمؤتمر الدولي بمراكش حول العدالة والاستثمار يوم 2019-10-21.
فتوفير مناخ جيد للأعمال لا يقتضي تحديث وهيكلة النصوص التشريعية فقط ، بل لا بد من تحديث القضائية ، قصد المساهمة التي لم تعد منحصرة في الفصل في المنازعات ، بل لقد عهد لها ضمان المعايير الأساسية لتوفير الاطمئنان للمستثمرين على أموالهم و ممتلكاتهم ، تماشيا مع
التحولات الطارئة على المعاملات التجارية و مع متطلبات فض النزاعات المرتبطة بهذه المعاملات التجارية وفق الشكل الذي يضمن الحفاظ على المصلحة الاقتصادية العامة
و عليه أصبح القضاء لا يلعب الدور التقليدي المنوط له بفض النزاعات بل اصبح يمارس وظيفة و سلطة اقتصادية مهمتها الأولى ضمان وصيانة التنمية الشاملة و لهذا فموضوع هذه الرسالة جاء للكشف عن دور العدالة الاقتصادية في تحسين مناخ الأعمال و تشجيع الاستثمار لما له من أهمية قصوى ، وخاصة إذا علمنا أن سمعة الدول اليوم تقاس بمستوى عدالتها أو قضائها و الانطباع الذي يخلفه في نفوس المتقاضين ، فبقدر ما يكون هذا الانطباع إيجابيا بقدر ما تزداد الثقة و تتكرس في كافة مؤسسات الدولة ، لذلك نجد أن المستثمر يتطلع أولا لمعرفة أحوال القضاء والنصوص القانونية الجاري بها العمل قبل الإقدام على الاستثمار في بلد معين فالمستثمر قبل أن يبدأ في استغلال رأسماله في الدولة المضيفة يسعى جاهدا ، للبحث عن ضمانات و آليات قانونية و اقتصادية كفيلة بتعزيز الثقة في المنظومة القضائية ، و توفير الأمن و الحماية للمستثمرين ، سواء تعلق الأمر بتوفير هذه الحماية عن طريق محاكم مختصة ، كالمحاكم التجارية التي تواكب كل التطورات العملية على المستوى الاقتصادي و ذلك من اجل تعزيز المكتسبات و الرفع من قدراتها في إصدار الأحكام العادلة والملائمة من اجل توفير نوع من الأمن القضائي للمستثمرين ، بالإضافة الى وجود محاكم أخرى مختصة من بينها المحاكم المالية (و نخص بالذكر المجلس الأعلى للحسابات والمجالس الجهوية للحسابات ) و ما يلعبه في وضع رقابة فضائية داخل المؤسسات العمومية من اجل ابراز نوع من الشفافية في ابرام الصفقات العمومية ، ثم لا ننسى دور المحاكم الإدارية في تحسين مناخ الأعمال عن طريق المنازعات التي تعرض عليها في اطار حماية الاستثمار و توفير أمن قضائي فعال .
كما يمكن الإشارة أيضا إلى أن دور العدالة في تحقيق التنمية الاقتصادية و توفير مناخ ملائم للاستثمار ، لا يتحقق فقط من خلال المؤسسات القضائية الرسمية ، بل لا بد من وجود مؤسسات قضائية غير رسمية ونخص بالذكر هنا الوسائل البديلة لحل المنازعات ، و ما تقوم عليه من قواعد أصبحت تفرض نفسها كحل بديل في كثير من الأحيان خصوصا في مجال التجارة الداخلية او حتى
التجارة الدولية ، بل و يمكن القول بأن مجهود الدولة و مهما بلغ من أجل النهوض بقطاع العدالة في بلادنا لا يكفي لتحقيق التنمية المنشودة وخلق المناخ الملائم للاستثمار ، مالم يعزز بمساهمة جهات أخرى لحل المنازعات من دون اللجوء إلى القضاء و عند الاقتضاء قبل اللجوء الى القضاء ، وفي هذا الإطار يمكن الإشارة الى ان التحكيم و الوساطة الاتفاقية و حتى الصلح يمكن لهم أن يحققا أهدافا متميزة في حل النزاعات و ذلك مما سيساعد في الرفع من مجل التنمية و تحقيق نوع من السرعة و تبسيط و تسريع المساطر القضائية والإدارية ، بالإضافة الى توفير نجاعة فضائية و هذا ما سيحسن لا محال في تحسين مناخ الأعمال و تشجيع الاستثمار و حمايته بالإضافة الى المساهمة في تعزيز المكانة التي يطمح لها المغرب .
و أن وضع ترسانة فضائية امنة لجلب الاستثمار و حمايته يستوجب أهمية كبيرة داخل المنظومة القانونية والقضائية بالمغرب ، مما يفرض علينا دراسة هذا الموضوع ، وإعطائه نوع من الأهمية.
التحميل
www.moufed.com
3 تعليقات