أخبارخبر

البصمة الوراثية كوسيلة للإثبات

البصمة الوراثية كوسيلة للإثبات

بصمه وراثيه


genetic fingerprint DNA – empreinte génétique


أولاً- مفهوم البصمة الوراثية:


تجتاح العالم المعاصر ثورة بيولوجية ذات طابع وراثي قامت نتيجة اكتشـاف الخريطة الوراثية للإنسان، واكتشــاف البصمة الوراثية L’empreinte génétique أو بصمة الدنا أو ما يسـمى ببصمة الـ ADN بالفرنسية والـ DNA بالإنكليزية. (ورمز ADN هو اختصار فرنسي للمصطلح العلمي «Acide désoxyribonucléique». أما رمز  DNA فهو اختصار إنكليزي للمصطلح العلمي «Deoxyribonucleic acild». وهو يقابل في اللغة العربية المصطلح العلمي «الحمض النووي منقوص الأكسجين»، وبعضهم يطلق عليه مصطلح «الحمض النووي الريبي منقوص الأكسجين»).


اكتشف العالم آفري في العام 1944 الدنا، وبيّن أنه هو المسؤول عن نقل الصفات الوراثية من الأصول إلى الفروع. في العام 1953 اكتشف العالمان ويستون وكريك بنية الدنا، حيث أثبتا بأن جزيء الدنا يتكون من جديلتين مكونتين من التفاف سلسلتين من عديد النيكليوتيد. في بداية الستينيات من القرن الماضي أوضح العالمان نيربرغ وكورانا أن تتابع الأسس على جديلة من الدنا هو المسؤول عن خصوصية معلومات وسلسـلة البروتينات، ومن هنا جاءت القاعدة التي تقول: «جينة واحدة  – بروتين واحد». وساعدهما هذا الاكتشاف على إثبات أن الرمز الوراثي أو الشيفرة الوراثية يعمل من خلال كودونات مكونة من ثلاثة نيكليوتيدات متتابعة وخاصة بحمض أميني معيّن. وبعد ذلك اكتشف عالم الوراثة البريطاني أليك جيفريز Alec Jeffreys أن تتابع هذه الأسس على جزيء الدنا يختلف من شخص إلى آخر، واحتمال تطابق هذه الأسس عند شخصين هو أمر نادر جداً حتى لا يُقال: إنه مستحيل، وذلك باستثناء حالة التوائم المتماثلة. وأطلق على اكتشافه هذا تسمية بصمة الـ DNA- DNA Fingerprint .


1- تعريف البصمة الوراثية: والبصمة الوراثية هي بيان بالخصائص والصفات الوراثية التي تسمح بتحديد هوية شخص ما والتعرف إليه؛ وبالتالي فهي تشبه بطاقة الهوية الشخصية، ولكنها لا تبين عناصر الحالة المدنية للشخص، كالاسم، والنسبة، والموطن…، وإنما تحدد خصائصه الوراثية. وبالتالي فهي عبارة عن هوية شخصية وراثية للفرد تبين لون عينيه، وبشرته، ودرجة ذكائه، ونوع هرموناته، وبروتيناته، وحالته الصحية،… ومن المعروف علمياً أن الكائنات البشرية لا يشبه بعضها بعضاً، وإنما هي على أشكال متباينة ومختلفة. وتظهر هذه التباينات خاصة من الناحية الوراثية، وذلك على شكل طبائع وراثية مختلفة. ولكن لا تبدو هذه الطبائع الوراثية – على الأغلب – بالعين المجردة، وإنما تشكل اختلافات بيولوجية كيميائية على جزيء الدنا. ويسمح تعدد الأشكال المتوضعة على جزيء الدنا بتمييز الأفراد. ومن هنا يمكن القول: إن كل فـرد يتمتع ببطاقة هوية وراثية خاصة به تميزه من غيره من الأفراد، ويسمح انتقالها إلى الأجيال القادمة بإثبات النسب بين الأفراد.


2- القيود والضوابط التي يخضع لها اختبار البصمة الوراثية: إن اختبار الـدنا – كوسيلة من وسائل الإثبات  وخاصة في نطاق القضايا  الجزائية – لا قيمة له إذا لم يتمّ العثور على مواد في مسرح الجريمة يمكن أن يستخلص منها – بعد التحليل – البصمة الوراثية للجاني. حتى لو تم الحصول على هذه البصمة من العينات التي رُفعت من مكان الجريمة، لابد من مقارنة نتائج هذه العينات مع عينات أخرى حتى يمكن إماطة اللثام عن المجرم، فإذا كان هناك مشتبه به؛ فيتمّ مقارنة نتائج تلك العينات من الـدنا التي تؤخذ من هذا المشتبه به. ولاشك في أن البصمة الوراثية حققت ثورة في أساليب التحقيق والتحري في نطاق القضايا الجزائية. وقد دخلت بطاقة الهوية الوراثية الشخصية من الباب الواسع في ترسانة التحقيقات والتحريات البوليسية وفي جعبتها مئات الحالات التي تمّ فيها إماطة اللثام عن المجرمين، وكذلك إصلاح حالات الغلط القضائي. ومع ذلك لا يغني استخدام هذه الوسيلة عن اللجوء إلى الوسائل التقليدية في التحقيق الجنائي.


أضف إلى ذلك أن نتائج اختبار الـدنا لا يمكن أن تكون مقنعة؛ وبالتالي تعدّ دليلاً يمكن الاستناد إليه إلا ضمن شروط معيّنة، وهي:


أ- يجب أولاً العثور على مواد بيولوجية في مكان الجريمة يمكن استخلاص مادة الدنا منها. فلا قيمة لهذه التقنية إذا لم يُعثر على عينة من الدنا.


ب- وعندما يترك الجاني أثراً يمكن استغلاله في مكان الجريمة، يجب أن يتمّ أخذ العينة بالطرق العلمية الصحيحة، سواء تعلق الأمر بشعرة أو ببقعة دم، أو سائل منوي، أو بعقب سيجارة يوجد عليه آثار اللعاب. وقد أثار بعض الخبراء خطر تلوث العينة التي تَّم أخذها من مكان الجريمة مع دنا آخر في أثناء معالجتها. ويمكن أن يؤثر هذا التلوث في العينة التي تمّ رفعها من مكان الجريمة؛ وبالتالي تصبح غير قابلة للاستعمال.


ج- يجب بعد ذلك حفظ العينة – إذا لم ترسل مباشرة إلى المخبر – بعناية فائقة ووفقاً للشروط الملائمة لذلك. ويمكن حفظ جزيء الـدنا في حجرة التجميد، أو في مكان بارد. أضف إلى ذلك أن الـدنا لا يتحمل تغييرات الحرارة والرطوبة، وتأثير بعض المركّبات الكيميائية، وكذلك تأثير الأشعة فوق البنفسجية.


د- وقد أضاف تطور طرق إجراء اختبارات الـدنا قيداً آخر على استخدامه دليلاً من أدلة الإثبات. وقد بدأ هذا التطور منذ عام 1991 الذي يعدّ مرحلة تاريخ استخدام البصمة الوراثية، وقد فرض هذا التطور على التقنيين -الذين يمارسون عملهم في مكان الجريمة والمكلفين بأخذ العينات – إجراء دورات في هذا المجال؛ وذلك من أجل أن يكون تكوينهم المهني متناسباً مع التطور الحاصل في هذا المجال.


هـ- حتى لو عثر المحققون على عينات جديدة من الـدنا في مسرح الجريمة، فلا يعدّ ذلك الأمر نصراً لهم؛ لأنه لا يؤدي بذاته إلى كشف هوية المجرم. فلا بد إذاً من مقارنة نتائج تلك العينات مع البصمة الوراثية للمتهم المحتمل. وهنا تظهر فائدة السجل الآلي للبصمات الوراثية الذي أخذت به معظم الدول الغربية التي كرست الخبرة الوراثية، حيث يستطيع المحققون مقارنة نتائج تحليل عينات الدنا التي أخذت من مكان الجريمة مع البصمة الوراثية المحفوظة في السجل المذكور. فإذا كان فاعل الجرم من ذوي أصحاب السوابق؛ يسهل في مثل هذه الحال نزع القناع عن وجهه وإلقاء القبض عليه. أما إذا لم يكن له سوابق قضائية؛ فيستطيع المحققون حينئذٍ مقارنة نتائج تحليل عينات الدنا التي رفُعت من مكان الجريمة مع البصمة الوراثية للشخص الذي تحوم حوله الشكوك. ولكن حتى لو كانت النتائج إيجابية -في الحالة الأخيرة- فلا يعدّ ذلك قرينة قاطعة على إدانة ذلك الشخص. فمن السهل جداً أن يقوم المجرم -وخاصة إذا كان محترفاً – بخلط الأوراق وتشويش خطط المحققين، وذلك بأن يترك أدلة بيولوجية كاذبة، كخصلة شعر، أو بقعة دم تابعة لشخص آخر، ويأخذ كل احتياطاته في سبيل ألا يترك الآثار البيولوجية الخاصة به.


و- أضف إلى ذلك أن الشخص الذي يقوم بتحليل البصمة الوراثية، وكذلك الشخص المكلف بأخذ عينة  الـدنا من المشتبه به  يجب أن تتوافر فيهما الشروط الفنية والعلمية الضرورية لإجراء مثل تلك التحاليل كالاختصاص والكفاءة.


ثانياً – مجالات استخدام البصمة الوراثية:


1- استخدام البصمة الوراثية لغايات علمية وطبية:


دفع الخوف من استخدام اختبارات البصمة الوراثية لغايات اقتصادية وتجارية معظم المشرعين في الدول الغربية المتقدمة  تكنولوجياً وعلمياً إلى تضييق نطاق استخدامها لغايات طبية وعلمية. فيخشى مثلاً استخدام مثل هذه الاختبارات في مجال العمل، حيث من الممكن أن يتم تصنيف العمال وفقاً لاستعدادهم وقابليتهم الوراثية. وهذا ما هو عليه الحال في الولايات الأمريكية المتحدة، حيث إن الكشف أو التقصي الوراثي هو إجراء إلزامي لبعض المهن. واستناداً إلى ذلك يجب إخضاع الطيارين المدنيين أو العسكريين للكشف الوراثي عن الأمراض  التي تسبب الدوخة والإغماء. وكذلك يخشى أن تلجأ شركات التأمين إلى الاختبارات الوراثية؛ وذلك بهدف استبعاد بعض الأشخاص المصابين ببعض الأمراض الخطرة من نطاق التأمين الصحي، أو أن تفرض عليهم أقساط مضاعفة.


لذلك فقد تدخلت بعض التشريعات الغربية للتضييق من نطاق استخدام البصمة الوراثية وكذلك الاختبارات الوراثية. ومن هذه التشريعات التشريع الفرنسي إذ إنه يحصر استخدامها إما في نطاق دعوى قضائية، أو لأغراض علمية وطبية . وتنص المادة (16-10) من التقنين المدني الفرنسي على أنه لا يمكن إجراء دراسة الخصائص الوراثية لشخص إلا لأغراض طبية أو لأغراض البحث العلمي. وتنص على أنه يجب الحصول بصورة مسبّقة  على رضا الشخص كتابة بعد اطلاعه على غاية تلك الدراسة وطبيعتها، ويمكن الرجوع عن الرضا في أي وقت. وأكدت ذلك الفقرة 3 من المادة (16-11) من التقنين المذكور، والتي تنص على أنه عندما يتم تحديد هوية الشخص – عن طريق بصماته الوراثية – لأغراض طبية أو لأغراض البحث العلمي؛ فيجب الحصول على رضائه بصورة مسبّقة. وهذا ما ذهبت إليه أيضاً المادة (1131-1 ل) من تقنين الصحة العامة الفرنسي. وأجازت هذه المادة -في حال عدم امكانية الحصول على رضا الشخص أو استشارة الشخص الذي حدده أو أقاربه- إجراء الاختبار أو تحديد الهوية لغايات طبية تحقيقاً لمصلحة ذلك الشخص.


ولم يحدد المشرع الفرنسي في المواد المشار إليها أعلاه المقصود من عبارة «لأغراض البحث العلمي»، بيد أنه أخضع الرجوع إلى الاختبارات الوراثية و البصمة الوراثية، لتوافر شروط معيّنة، منها رضا الشخص المعني بإجراء مثل هذه الاختبارات عليه لأغراض البحث العلمي. وهذا الشرط يعدّ قيداً جدياً لحرية العلماء في إجراء الاختبارات الوراثية. كما لم يحدد المشرع الفرنسي المقصود بعبارة «لأغراض طبية». ويشمل مفهوم «لأغراض طبية» الاختبارات الوراثية التي تمت بصورة مسبّقة في حالة زرع الأعضاء. ويدخل ضمن هذا المفهوم أيضاً الاختبارات الوراثية التي يمكن أن يخضع لها الراغبون في الـــزواج قبل الزواج؛ وذلك لاستبعاد أية علاقة قرابة لا يعلم بها الأطراف بين الزوجين. وهذه الفرضية غير مستبعدة بعد انتشار ظاهرة الإنجاب الاصطناعي في الدول الغربية خاصة.


ونتيجة للثورة العلمية التي تميز العصر الحاضر – ولاسيما في مجالات الطب وعلم الأحياء وعلم الوراثة – فإن البحث العلمي هو في تطور دائم. وأمام هذا التقدم الهائل في هذه المجالات وأمام هذه الثورة العلمية يجب على السلطات الوطنية والدولية أن تميز بين متطلبات التقدم العلمي والبحث العلمي ومقتضياتهما وبين احترام الإنسان والإنسانية وحمايتها عموماً. والأداة الأساسية لهذه  الحماية تكمن في صون الكرامة الإنسانية للشخص وللجنس. ويجب أن يتم التقدم وكذلك البحث العلمي لخدمة الإنسان خصوصاً؛ وخدمة الإنسانية جمعاء عموماً، وليس لخدمة العلم بحد ذاته. إذاً يجب أن يكون هناك ضوابط معيّنة للبحث العلمي بحيث تحدد بدقة الشروط التي يجب أن تتوافر لإجراء التجارب العلمية على الإنسان.


2- استخدام البصمة الوراثية في مجال دعاوى النسب:


لقد اكتسبت البصمة الوراثية شهرتها في العام 1986، وذلك عندما لجأت دائرة الهجرة البريطانية إلى تحليل الدنا لتحديد البصمة الوراثية لشاب غيني للتأكد من نسبه من والدته التي كانت تقيم في بريطانيا، حيث كان الشاب يرغب في الالتحاق بها والهجرة إلى بريطانيا استناداً إلى القانون البريطاني الذي يجيز لمّ الشمل العائلي. ولكن دائرة الهجرة البريطانية كانت تشكك في مزاعم الشاب وفي علاقة النسب بينه وبين السيدة المقيمة في بريطانيا، وكانت تعدّ ادعاءه كاذباً، القصد منه الحصول على بطاقة الإقامة في بريطانيا، حيث كانت دائرة الهجرة تعتقد أن السيدة المزعومة هي خالته، وليست والدته. بيد أن عالم الوراثة البريطاني أليك جيفريز استطاع أن يثبت صحة ادعاء الشاب؛ وبالتالي يقيم علاقة النسب بينه وبين السيدة المقيمة في بريطانيا، وذلك عن طريق تحليل الدنا لكل منهما، ومن ثمّ المقارنة بين نتائج العينتين.


وأسهم هذا النجاح الذي حققه العالم أليك جيفريز في إعطاء البصمة الوراثية شهرة دولية كبيرة، حيث إنها انتشرت في معظم أنحاء العالم، وعلى الأخص في القارتين الأمريكية والأوربية. وظهر اتجاهان في القوانين الغربية من حيث حجية البصمة الوراثية في مجال دعاوى النسب. وبالمقابل لا يكرس قانون الأحوال الشخصية السوري أي نص يتعلق بإمكانية اللجوء إلى اختبارات البصمة الوراثية في مجال النسب، وترفض محكمة النقض السورية اعتماد هذه الاختبارات كدليل لإثبات النسب. (نقض سوري، الغرفة الشرعية، قرار 2583/5300، تاريخ 26/12/2005، منشور في مجلة «المحامون» لعام 2007، الأعداد 10-12، ص1404. وجاء في هذا القرار أنه «لا وجه لاعتماد الفحص النووي أو أي خبرة فنية كدليل لإثبات النسب إلا بالطرق المقررة شرعاً حسب ما استقر عليه الاجتهاد كون النسب من النظام العام، وهو حق من حقوق الله»).


أ- مبدأ حرية اللجوء إلى اختبارات البصمة الوراثية:


أجازت تشريعات غربية عديدة اللجوء إلى البصمة الوراثية خاصة، والدليل العلمي عامة، دون قيد أو شرط، منها مثلاً: القانون الأمريكي، والقانون السويسري، والقانون الدنماركي، والقانون الإنكليزي.


وتقوم قواعد النسب في القانون الإنكليزي على أساس الحقيقة البيولوجية. وتؤدي الأدلة العلمية دوراً بارزاً في دعاوى إثبات الأبوة أو إنكارها. ويجوز في القانون الإنكليزي – منذ صدور Law Reform Act  في العام 1969 – دحض قرينة شرعية أبوة شخص أو عدم شرعيتها عن طريق دليل آخر يثبت أن علاقة نسب أخرى مختلفة هي أكثر احتمالاً. ولاشك في أن الأدلة العلمية – ومنها البصمة الوراثية – تجعل من هذه الاحتمالية أمراً شبه أكيد.


وتوجد في القانون الإنكليزي – فيما يتعلق بالأدلة العلمية – طريقتان تحددهما إرادة الأطراف المتنازعة. فإذا كان هناك اتفاق بين الأطراف على إجراء الخبرة الوراثية لتحديد البصمة الوراثية؛ فيمكن أن يتم هذا الأمر خارج نطاق القضاء، أما إذا عارض أحد الطرفين في ذلك؛ فلابد هنا من رفع الأمر إلى القضاء.


يستطيع الأب والأم – وفقاً للقواعد العامة للإثبات في القانون الإنكليزي – اللجوء بكل حرية إلى خبير يختارانه من أجل تحديد ما إذا كان الزوج هو الأب البيولوجي للطفل عن طريق تحاليل البصمة الوراثية لهم. ويمكن اللجوء إلى هذه الخبرة خارج نطاق أية دعوى قضائية، فإذا توصلت الخبرة إلى نفي أبوة الزوج؛ فإن هذه الخبرة سوف تشل إمكانية رفع أية دعوى ضد الزوج بصفته أباً للطفل. وإذا تمّ الكشف عن هذه النتائج في أثناء دعوى قضائية؛ فإنها تؤدي إلى حرمانه وفقده صفة الأب عن طريق الدم التي كان يتمتع بها بموجب سند، مثلاً شـهادة الولادة. أما إذا أثبتت الخبرة أبوة شخص؛ فإن النتائج التي تترتب على ذلك تختلف وفقاً لما إذا كان الأمر يتعلق بنسب قانوني «شرعي» أو بنسب طبيعي. فإذا كان الأمر يتعلق بالنسب القانوني؛ يستطيع الطفل أن يرفع دعوى إعلان شرعية النسب، ولا شك في أن المحكمة سوف تحكم بشرعية النسب وفقاً لنتائج تحاليل البصمة الوراثية. ويترتب على ذلك جميع الآثار المترتبة على النسب الشرعي. أما بالنسبة إلى النسب الطبيعي؛ فإذا كان الأب قد اعترف بالطفل كابن له في شهادة ميلاده، أو ثبتت أبوته بحكم قضائي، فيمكن للطفل أن يرفع دعوى قضائية لبيان حقيقة نسبه.


وإذا رفض أحد الطرفين الخضوع للخبرة البيولوجية لتحليل بصمته الوراثية؛ فلا بد في مثل هذه الحال من رفع الأمر إلى القضاء. والقانون الإنكليزي يمنح القاضي سلطة تقديرية في قبول طلب إجراء خبرة بيولوجية لتحليل البصمة الوراثية. ويجب أن تمارس هذه السلطة التقديرية على نحو يحقق مصلحة الطفل.


واستناداً على ذلك يستطيع القاضي أن يرفض طلب إجراء الخبرة إذا كانت الظروف لا تسمح في أن نشكك بأبوة الشخص الذي يطلب إجراء هذه الخبرة. وواقع الحال في إنكلترا يثبت أن القاضي يقبل طلب إجراء الخبرة المقدم من الزوج. في حين أن القاضي يظهر بعض التشدد في قبول الطلب المقدم من شخص يدعي أنه الأب البيولوجي لطفل يتمتع بنسب قانوني. فإذا تبين للقاضي أن طلب الخبرة المقدم من قبل شخص ثالث سوف يزعزع الوضـع العائلي الذي عاش فيه الطفل حتى تاريخ النزاع؛ فإنه غالباً يقرر ردّ الطلب.


ب- تقييد حرية الإثبات عن طريق البصمة الوراثية:


ينتقد الفقه والقضاء في فرنسا بصورة مستمرة مبدأ حرية اللجوء إلى الدليل العلمي؛ وبصورة خاصة البصمة الوراثية، لذلك فقد أخضع المشرع الفرنسي الإثبات عن طريق البصمة الوراثية لقواعد صارمة. ورفض مبدأ حرية الإثبات عن طريق البصمة الوراثية يؤدي إلى تنظيم طريقة الإثبات بواسطة هذه الوسيلة. وهذا الأمر يتطلب أن يكون هناك سلطة حيادية تقرر متى وكيف يمكن اللجوء إلى البصمة الوراثية، وهذه السلطة هي القضاء.


تنص المادة (16-11) من التقنين المدني الفرنسي على أنه لا يمكن اللجوء إلى تحديد الهوية عن طريق البصمة الوراثية إلا في نطاق دعوى قضائية كإجراء من إجراءات البحث والتحـري أو التحقيق؛ أو لأغراض طبية أو لأغراض البحث العلمي.


وفي القضايا المدنية لا يمكن البحث عن هذه الهوية إلا تنفيذاً لإجراء تحقيق أمر به القاضي الذي ينظر في دعوى تهدف إما إلى إثبات علاقة نسب وإما إلى نفيها، أو تهدف إلى الحصول على النفقة من أجل الطفل أو إلغائها. ويجب أن يكون الهدف من إجراء تحليل البصمة الوراثية في نطاق دعوى هو البحث عن الحقيقة البيولوجية. ولكن قد يترتب على كشف الحقيقة البيولوجية – في بعض الحالات – نتائج خطرة جداً للأمن العائلي خاصة. وهذا سبب آخر من الأسباب التي دفعت المشرع الفرنسي إلى تقييد حرية الإثبات عن طريق البصمة الوراثية.


كان المشرع الفرنسي يميز – في الحالات التي يجوز الرجوع فيها إلى الاختبارات الوراثية لتحديد البصمة – بين النسب الشرعي والنسب الطبيعي. ولكنه تدخل، وعدل الأحكام الناظمة للنسب بموجب الأمر (رقم 709/ 2005 تاريخ 4/7/2005)، الذي دخل حيز التنفيذ بدءاً من 1/7/2006، (أنظر هذه الأحكام في التقنين المدني، دالوز 2007، الطبعة 106، ص310 وما يليها).


ولم تعد هذه الأحكام تميز بين النسب الشرعي وبين النسب الطبيعي.


وتجيز المادة (325) من التقنين المدني الفرنسي للولد – في حال عدم وجود سند أو حيازة الحالة – رفع دعوى إثبات الأمومة، مع مراعاة أحكام المادة (326) التي تكرس حق الأم في الحفاظ على سرية هويتها عند الولادة. ويلزم المدعي – الولد- بإثبات أنه الولد الذي أنجبته الأم المدعى عليها. ويمكن له إثبات ذلك بجميع وسائل الإثبات؛ ومنها البصمة الوراثية. كما أجازت المادة (327) للولد رفع دعوى إثبات الأبوة خارج نطاق الزواج. ويمكن إثبات هذه الأبوة بجميع وسائل الإثبات؛ ومنها البصمة الوراثية. وتنص المادة (329) على أنه عندما تستبعد قرينة الأبوة طبقاً لأحكام المادتين (313 و314). (تنص المادة (312) من التقنين المدني الفرنسي في صياغتها الجديدة على أن الزوج هو الأب الشرعي للطفل إذا تم الحمل أو الولادة أثناء الزواج، وبالتالي فإن هذه المادة تكرس قرينة بسيطة يمكن استبعادها في حالات عدة نص عليها التقنين المذكور.


وتنص المادة (313) من هذا التقنين على أنه في حالة طلب التطليق أو الانفصال الجسدي تستبعد قرينة الأبوة عندما يولد الولد بعد أكثر من 300 يوم بعد تاريخ تصديق الاتفاقية الناظمة لجميع آثار التطليق، أو التدابير المؤقتة المتخذة وفقاً لأحكام المادة (250-2) أو بعد قرار عدم المصالحة، ولأقل من 180 يوماً منذ الرفض النهائي للطلب أو المصالحة. ومع ذلك تعود قرينة الأبوة بحكم القانون إذا كان الولد يتمتع بحيازة الحالة بالنسبة لكل من الزوجين وإذا لم يكن قد ثبت له نسب أبوي تجاه الغير. وتنص المادة (314) من التقنين نفسه على  استبعاد قرينة الأبوة عندما لا تعين شهادة ميلاد الولد الزوج بصفته أباً ولا يتمتع الولد بحيازة الحالة تجاهه).


يمكن لأي من الزوجين أن يطلب في أثناء فترة قصر الولد إعادة إثبات آثارها إذا استطاع أن يثبت أن الزوج هو الأب، ويكون ذلك بجميع وسائل الإثبات؛ ومنها البصمة الوراثية. كما يحق للولد رفع هذه الدعوى خلال عشر سنوات بعد بلوغه سن الرشد. ومن جهة أخرى أجازت المادة (332) من التقنين المذكور نفي الأمومة؛ وذلك بإثبات أن الأم لم تلد الولد، كما أجازت نفي الأبوة بإثبات أن الزوج أو المقر ليس الأب. ويكون ذلك بجميع وسائل الإثبات؛ ومنها البصمة الوراثية. ويحق فقط للولد أو لأحد الأبوين أو من يدعي أنه الأب الحقيقي أن يرفع هذه الدعوى؛ وذلك عندما تكون حيازة الحالة متطابقة مع السند، أي شهادة الميلاد. وتتقادم هذه الدعوى بمرور خمس سنوات بدءاً من اليوم الذي تتوقف فيه حيازة الحالة أو وفاة الأب؛ طبقاً لما نصت عليه الفقرة الأولى من المادة (333) من التقنين المدني الفرنسي. أما في حال عدم تطابق حيازة الحالة مع السند فيمكن لكل ذي مصلحة أن يرفع دعوى نفي النسب. كما أجازت المادة (335) من التقنين المذكور لكل ذي مصلحة إمكانية نفي النسب الثابت بحيازة الحالة المثبتة في شهادة تعريف، وذلك بإثبات العكس خلال مدة خمس سنوات تبدأ من تاريخ منح الشهادة. كما يجوز للنيابة العامة نفي النسب الثابت قانوناً إذا كانت القرائن المستخلصة من التصرفات نفسها تجعل النسب غير صحيح، أو إذا كان هناك احتيال على القانون. ويمكن نفي النسب في هاتين الحالتين بجميع وسائل الإثبات؛ ومنها البصمة الوراثية.


وأخيراً تجيز المادة (342) من التقنين المذكور لكل ولد طبيعي لم يثبت نسبه من جهة أبيه قانوناً أن يطالب بالنفقة الشخص الذي كان على علاقة بأمه في أثناء الفترة القانونية للحمل. ويمكن أن ترفع الدعوى في أثناء فترة قصر الولد، كما يمكن للولد أن يرفع الدعوى خلال السنتين التاليتين لبلوغه سن الرشد، في حال عدم رفعها في أثناء فترة القصر. و تقبل الدعوى حتى لو كان الأب أو الأم وقت الحمل ملتزماً بعلاقات زواج مع شخص آخر، أو كان يوجد بينهما مانع من موانع الزواج المنصوص عليها في المواد (161 حتى 164) من هذا القانون.


وهناك حالات منع المشرع الفرنسي كشف الحقيقة البيولوجية فيها؛ وبالتالي فإنه منع اللجوء إلى اختبارات البصمة الوراثية في قضايا النسب، وأهم هذه الحالات هي:


q الولادة تحت اسـم مجهول (حق الأم في عدم الإفصاح عن هويتها عند الولادة).


q الإنجاب المساعد طبياً عن طريق تدخل شخص ثالث.


q التبني التام أو الكامل الذي يعطي الطفل نسباً جديداً يحل محل نسبه القديم، حيث تنقطع علاقة المتبنى مع عائلته الأصلية البيولوجية.


q النسب الشرعي الثابت بشهادة الميلاد وحيازة الحالة، إذ تنص المادة (333) من التقنين المدني الفرنسي على أنه عندما تكون حيازة الحالة متطابقة مع السند يحق فقط للولد أو لأحد الأبوين أو من يدعي بأنه الأب الحقيقي أن يرفع الدعوى.


3- استخدام البصمة الوراثية في نطاق القضايا الجزائية:


يعد اختبار الـدنا وسيلة فعالة في الكشف عن الجرائم ونزع القناع عن وجه فاعليها. وقد تم اللجوء إلى هذا النوع من الاختبارات لأول مرّة في نطاق القضايا الجزائية في إنكلترا في عام 1987. ومن ثم شاع استعمال هذه الوسيلة في معظم دول العالم، ومنها سورية.


ومن جهة أخرى تساعد اختبارات الـدنا على تبرئة متهم ما.


وأخيراً أسهمت اختبارات الدنا في تسليط الأضواء على حالات الغلط القضائي في نطاق الدعاوى الجزائية. فقد سمحت هذه الاختبارات في الولايات المتحدة الأمريكية بإعلان براءة ما يقارب 90 شخصاً، منهم ثمانية أشخاص كان قد حُكم عليهم بالإعدام. ونتيجة لذلك طلبت وزيرة العدل الأمريكية – في عهد الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون – من النيابة العامة أن تسمح بإعادة فتح الملفات المحفوظة. وكانت قضية رولان كونون هي التي فتحت أبواب القضاء على مصراعيه أمام اختبارات الدنا في الولايات المتحدة الأمريكية، حيث تمّ اللجوء إلى هذه الاختبارات لأول مرّة أمام القضاء في عام 1986. كما قامت السلطات المختصة في ولاية إيداهو في أمريكا بإطلاق سراح السجين تشارلز فاين بعد ثمانية عشر عاماً قضاها في أزقة الموت. لقد أدين تشارلز بجريمتي اغتصاب و قتل طفلة، وحُكم عليه نتيجة لذلك بالإعدام في  عام 1982.


ولم يتطرق قانون أصول المحاكمات الجزائية السوري الصادر بالمرسوم التشريعي (رقم 112) لعام 1950 وتعديلاته بصورة صريحة لاختبارات البصمة الوراثية بوصفها وسيلة من وسائل الإثبات، ولكن يمكن اللجوء إلى هذه الاختبارات في نطاق الدعوى الجزائية استناداً إلى مبدأين أساسيين يقوم عليهما قانون أصول المحاكمات الجزائية، وهما: مبدأ حرية الإثبات، ومبدأ القناعة الوجدانية للقاضي.


ويمكن التمييز – فيما يتعلق بالنظام القانوني للبصمات الوراثية في التشريعات الغربية – بين اتجاهين:


أ- الاتجاه الحر:


يسمح القانون الإنكليزي الصادر في عام 1995 والمتعلق بالعدالة الجزائية والنظام العام استخدام اختبارات الـدنا من أجل  تحديد الهوية الوراثية بصورة واسعة وليبرالية جداً في نطاق الدعاوى القضائية. ولم تكن النصوص النافذة قبل صدور  هذا القانون تسمح بأخذ العينات وإجراء الاختبارات الوراثية إلا في نطاق ضيق يقتصر على الأشخاص المتهمين بجنايات أو بجنح معاقب عليها بعقوبات حبس شديدة . ولكن كان رجال الشرطة يطالبون باستمرار توسيع نطاق تطبيق الاختبارات الوراثية، مستندين في ذلك  إلى الإحصائيات التي كانت تثبت أن عدداً لا بأس به من المحكوم عليهم بجرائم خطرة كانوا قبل ذلك قد اقترفوا جرائم قليلة الأهمية. وقد أوصت اللجنة الملكية حول العدالة الجزائية في تقريرها الصادر في عام 1993 بتوسيع مجال استخدام الاختبارات الوراثية من أجل تحديد الهوية.


وكرس المشرع الإنكليزي هذه التوصية في القانون الصادر في عام 1995 بشأن العدالة الجزائية والنظام العام، حيث يسمح  هذا القانون باللجوء إلى اختبارات الـدنا، وأخذ  العينات من كل شخص مدان بجنحة معاقب عليها بالحبس. ونص القانون المذكور أيضاً على إنشاء بنك مركزي للمعلومات يحتوي على البصمة الوراثية للأشخاص الملاحقين بجنحة معاقب عليها بالحبس، وكذلك على نتائج التحاليل الوراثية للعينات التي تمّ العثور عليها في موقع الجريمة، والتي لم يتم تعرف أصحابها. وفي حالة ثبوت براءة المدعى عليه يجب إتلاف العينات، وكذلك مسح بصماته الوراثية من ملفات السجل الآلي.


ولكن يقتصر إجراء اختبارات الـدنا – في الواقع العملي – على الجرائم الجنسية وجرائم الاعتداء ضد الأشخاص وجرائم السطو، وذلك نظراً للتكلفة الباهظة لهذه الاختبارات.


وقد ساعد الرجوع إلى هذا السجل – منذ عام 1995 حتى عام 2000 – على حل 2660 قضية قتل، و400 قضية اغتصاب و2500 قضية سطو.


ب- النظام المقيد:


لا يتضمن تقنين أصول المحاكمات الجزائية الفرنسي نصاً صريحاً يجيز الرجوع إلى اختبارات الـدنا – وبالتالي البصمة الوراثية – في نطاق الدعوى الجزائية. وبالمقابل فإن المادة (16-11) من التقنين المدني الفرنسي تنص على أنه لا يمكن البحث عن هوية شخص عن طريق بصماته الوراثية إلا في نطاق تدابير البحث أو التحقيق  الصادرة بخصوص دعوى قضائية، أو لغايات طبية أو لغايات البحث العلمي. ولكن لم تبين هذه المادة طريقة اللجوء إلى اختبارات  الـدنا  وإجراءاته من أجل الحصول على البصمة الوراثية. وبالتالي يجب – في مثل هذه الحال – الرجوع إلى القواعد العامة المنصوص عليها في تقنين أصول المحاكمات الجزائية الفرنسي لتحديد طريقة استخدام البصمة الوراثية، حيث تجيز هذه القواعد اللجوء إلى الخبرة الوراثية كغيرها من الأدلة  العلمية من أجل الوصول إلى الحقيقة.


ويمكن اللجوء إلى اختبارات الـدنا بموجب القواعد العامة استناداً إلى مبدأين أساسيين تقوم عليهما الأصول الجزائية، وهما: مبدأ حرية الإثبات، ومبدأ القناعة الوجدانية للقاضي، المكرسان في المادة (427) من تقنين أصول المحاكمات الجزائية الفرنسي. (تنص المادة 427 من تقنين أصول المحاكمات الجزائية الفرنسي على أنه باستثناء الحالات التي ينص عليها القانون، يمكن إثبات الجرائم بكافة طرق الإثبات، ويحكم القاضي وفقاً لقناعته الوجدانية ).


وتجدر الإشارة إلى أن المخابر الفرنسية المعتمدة تجري اختبارات البصمة الوراثية منذ العام 1989 حيث نفذت الشرطة العلمية في فرنسا في ذلك العام ما يقارب 40 اختباراً في نطاق الدعاوى القضائية المدنية والجزائية، ووصل الرقم في عام 1999 إلى 1200 تحليل، ومنذ ذلك الحين هو في تزايد مستمر. أما فيما يتعلق بإنشاء سجل آلي للبصمات الوراثية فقد تأخرت فرنسا بعض الوقت عن مواكبة بقية الدول الغربية في اعتماد مثل هذا السجل؛ إذ إنها لم تضع هذا السجل موضع التطبيق إلا في عام 2000.


ثالثاً – ضمانات اللجوء إلى البصمة الوراثية:


تخضع اختبارات البصمة الوراثية لضمانات عديدة أهمها:


1- الرضا:


تعدّ الخبرة الوراثية – ومنها اختبار البصمة الوراثية – في نطاق القانون المدني اعتداءً على السلامة الجسدية للشخص؛ وذلك لأن إجراء الخبرة في هذه الحالة يحتاج إلى أخذ عينة من جسم الإنسان (دم، أنسجة، عضو، …) فلا بد في مثل هذه الحال من الحصول على موافقة من يخضع لهذه الخبرة. وتختلف شروط هذه الموافقة وفقاً لما إذا كانت الخبرة ستجري على شخص حي أم على جثة ميت.


أ- بالنسبة للأحياء:


تعدّ حرمة الجسد البشري حقاً من حقوق الشخصية، ويمنع القانون الاعتداء على هذه الحرمـة. وتنص المادة (16-11) من التفنين المدني الفرنسي – المعدلة بموجب القانون (رقم 270/2005) تاريخ 14/3/2005 – على أنه لا يمكن البحث عن هوية شخص والتعرف إليه بواسطة بصماته الوراثية إلا في إطار تدابير التحري والتحقيق المتخذة بصدد دعوى قضائية، أو لغايات طبية، أو لغايات البحث العلمي، أو من أجل التعرف على عسكري توفي في أثناء عملية قامت بها القوات المسلحة أو التشكيلات المرتبطة بها. ولا يمكن في نطاق القضايا المدنية البحث عن هذه الهوية إلا تنفيذاً لتدبير تحقيقي قرره القاضي الناظر في دعوى تهدف إما إلى إثبات النسب وإما إلى نفيه وإما إلى الحصول على النفقة أو إلغائها. وفي مثل هذه الحال يجب الحصول على الموافقة الصريحة والمسبّقة للشخص المعني.


وهذا ما هو عليه الحال في إنكلترا أيضاً، حيث يستطيع أحد أطراف الدعوى أن يرفض الخضوع للخبرة البيولوجية، إذ تستلزم المادة (21) من القانون الصادر في العام 1969 لإجراء مثل هذه الخبرة الحصول على الرضا المســبّق للأشخاص المعنيين. ولا يستطيع القاضي إجبار الشخص على الخضوع للخبرة البيولوجية، وذلك احتراماً للحق في السلامة الجسدية. وأما القاصر الذي لم يبلغ السادسة عشرة من عمره؛ فإن إجراء الخبرة عليه يتم بموافقة الشخص الذي ينفق عليه وله عليه حق الحضانة. وإذا رفض الشخص الخضوع للخبرة البيولوجية يحق للقاضي أن يستخلص من رفضه جميع النتائج المترتبة على ذلك.


وبالمقابل فقد رجّحت تشريعات غربية أخرى حق الطفل  في معرفة أصوله على حق الشخص في السلامة الجسدية. ومثال ذلك القانون الألماني؛ في الواقع تُلزم المادة (372) من قانون أصول المحاكمات المدنية الألماني كل شخص – وليس فقط الأطراف في الدعوى – أن يقبل الخضوع لأي اختبار بيولوجي. واستناداً إلى ذلك فإن اختبارات البصمة الوراثية يمكن أن يحكم بها القاضي إما من تلقاء ذاته وإما بناءً على طلب الأطراف في الدعوى. وإذا رفض أحد الأشخاص الخضوع لهذه لاختبارات، تنص أحكام الفقرة الثانية من المادة (372) والمادة (390) من القانون المذكور على فرض عقوبة غرامة وحبس بحقه. وعند الاقتضاء يستطيع القاضي أن يكره الشخص على الخضوع لها.


وفيما يخصّ التشريعات التي تشترط توافر الرضا لإجراء اختبارات البصمة الوراثية، يجب أن يعبر الشخص المعني عن رضاه قبل الخضوع لهذه الاختبارات، أي بصورة مسـبّقة لإجراء الخبرة البيولوجية. أما الرضا الذي يتدخل بعد الخضوع للخبرة؛ فيمكن أن يعدّ تنازلاً من الشخص المعني عن حقه في المطالبة بالتعويض الذي كان من الممكن أن يطالب به.


أضف إلى ذلك أن الرضا يجب أن يكون صريحاً. ولا يعني ذلك أن يكون الرضا كتابة. وإنما يجب التعبير عن الرضا صراحة، حيث يمكن أن يكون شفاهة أو كتابة. ولكن يشترط أن يكون التعبير عن الرضا ناجماً عن تصرف إرادي. وكذلك يجب أن يفيد الرضا السماح بالاعتداء على السلامة الجسدية للشخص المعني عن طريـق أخذ العينات اللازمة من جسده لإجراء اختبارات البصمة الوراثية.


ب- في حالة الوفاة:


تمتاز تقنية البصمة الوراثية بتنوع العينات التي يمكن أن تُجرى عليها الخبرة. وهذا الأمر أثار مشكلة حقيقية -في الدول الغربية التي تسمح بإجراء مثل هذه الاختبارات- تتعلـق بمدى إمكانية إجـراء الخبرة على عينة مأخوذة من جثة شخص ما.


في فرنسا أثارت قضايا عديدة -منذ صدور القوانين المتعلقة بالأخلاقيات الحيوية في العام 1994 – مسألة ما إذا كان من الممكن إجراء خبرة وراثية على جثة شخص ما سواء قبل الدفن أم بعد استخراج الجثة من القبر، حيث يمكن – نتيجة تطور العلوم وتقدمها – إجراء الخبرة الوراثية على الرغم من انقضاء سنين عديدة على الوفاة، ودون أن يؤثر هذا الأمر في صلاحية النتائج ومصداقيتها.


في الحقيق، لم تتطرق القوانين المشار إليها في فرنسا بصورة صريحة لمسألة الرضا عندما يتطلب الرجوع إلى اختبارات البصمة الوراثية أخذ عينات من جثة شخص متوفى .


وتثير مسألة إجراء الخبرة الوراثيـة على جثة الميت تنازعاً بين حقين وهما: الحق في احترام حرمة الجثة، وحق الطفل في معرفة أصوله.


وأخيراً صدر القانون رقم (800/2004) تاريخ 6/8/2004 المتعلق بالأخلاقيات الحيوية معدلاً القوانين الصادرة في العام 1994 بهذا الصدد؛ ومضيفاً إلى المادة (16-11) فقرة جديدة تنص على أنه لا يمكن إجراء أي تطابق عن طريق البصمة الوراثية بعد وفاة الشخص باستثناء ما إذا كان الشخص المعني قد وافق صراحة على ذلك في أثناء حياته.


ويبدو أن مصلحة الطفل في معرفة أصوله ترجح في القانون البلجيكي على احترام حرمة الجثة. واستناداً إلى ذلك يمكن إجراء الخبرة الوراثية على جثة المتوفى، وذلك بعد استخراجها من القبر للحصول على بصماته الوراثية؛ وبالتالي مقارنتها مع البصمة الوراثية للطفل ولوالدته الطبيعية لإثبات علاقة الأبوة أو نفيها. وقرار إجراء الخبرة يعود إلى السلطة التقديرية لقاضي الموضوع.


2- حماية المعلومات الوراثية:


تحتوي البصمة الوراثية على بيان بالخصائص الوراثية للشخص، وبالتالي تسمح هذه الخصائص والصفات بالتعرف إليه. وفي نطاق القانون المدني تسمح هذه المعلومات الوراثية بإثبات علاقة النسب أو نفيها. وقد ميز بعض الفقهاء بين نوعين من المعلومات الوراثية: معلومات وراثية أساسية، ومعلومات وراثية ثانوية. النوع الأول هو ذو صفة بيولوجية، وهذه المعلومات هي الرسالة التي ترسلها المورثة إلى الخلية. أما النوع الثاني فهو الذي يهم رجل القانون؛ وذلك لأنه يقدم المعلومات التي يمكن من خلالها تحديد هوية الشخص.


ويضمن المشرع الفرنسي للمعلومة الوراثية حماية قانونية. وتبدو هذه الحماية من خلال المبدأ العام المتعلق بالحق في الحياة الخاصة، وكذلك من خلال عدم إفشاء السر المهني.


أ- الحق في الحياة الخاصة:


تنص المادة (9) من التقنين المدني الفرنسي على أن كل شخص له الحق في احترام حياته الخاصة. ويمكن للقضاة اتخاذ -دون الإضرار بإصلاح الضرر الواقع- كافة التدابير الخاصة التي من شأنها أن تمنع أو توقف اعتداءً وقع على الحياة الخاصة. وإذا كان هناك استعجال؛ يمكن لقاضي الأمور المستعجلة أن يتخذ مثل هذه التدابير.


في الواقع يعدّ إجراء فحص البصمة الوراثية لشخص ما دون علمه اعتداءً على حرمة حياته الخاصة؛ وذلك لأن مثل هذا الفحص يمكن أن يؤدي إلى تحديد هويته، وكذلك إلى كشف معلومات متعلقة بأبوته.


ب- عدم إفشاء السر المهني:


تنص المادة (226-13) من تقنين العقوبات الفرنسي الجديد على أنه يعاقب على إفشاء معلومة ذات طابع سري من قبل شخص مؤتمن عليها – سواء بسبب وضعه أو بسبب مهنته أو بسبب وظيفته أو بسبب مهمة مؤقتة كُلّف بها – بالحبس لمدة سنة وبغرامة مقدارها 15000 يورو.


واستناداً إلى ذلك لا يستطيع الطبيب الشرعي الذي يجري فحص البصمة الوراثية، أو الشخص الذي يعمل في مختبر للتحاليل الطبية أن يفشي محتوى المعلومات الوراثية التي حصل عليها. في نطاق دعوى قضائية -جزائية أو مدنية- يستطيع فقط أن يبين التطابق أو عدم التطابق بين العينات التي أجرى عليها الاختبارات الوراثية. وعليه أن يوضح ذلك في تقريره الذي يوجهه إلى المحكمة التي كلفته هذه المهمة. وخارج نطاق القضاء لا يحق له إفشاء نتائج هذه الاختبارات للغير.


مراجع للاستزادة:


– إبراهيم صادق الجندي، الطب الشرعي في التحقيقات الجنائية (مركز الدراسات و البحوث في أكاديمية نايف العربية للعلوم الأمنية، الرياض 1420هـ/2000م).


– أبو الوفا محمد أبو الوفا إبراهيم، مدى حجية البصمة الوراثية في الإثبات الجنائي في القانون الوضعي والفقه الإسلامي، بحث منشور في أعمال مؤتمر الهندسة الوراثية بين الشريعة والقانون المنظم من قبل كلية الشريعة والقانون بجامعة الإمارات العربية المتحدة (5-7 مايو 2002)، المجلد الثاني ص 692 وما يليها.


– أرنست ماير، «هذا هو علم البيولوجيا»، ترجمة عفيفي محمود عفيفي، سلسلة عالم المعرفة، العدد 277، يناير 2002.


– برنارد نايت، الجديد في الطب الشرعي، ترجمة ياسر سعيد (منشورات الرابطة السورية للطب الشرعي).


– غنام محمد غنام، دور البصمة الوراثية في الإثبات، بحث منشور في أعمال مؤتمر الهندسة الوراثية بين الشريعة والقانون المنظمة من قبل كلية الشريعة والقانون بجامعة الإمارات العربية المتحدة (5-7 مايو 2002) المجلد الثاني صـص469 وما يليها.


– فواز صالح، «حجية البصمات الوراثية في إثبات النسب – دراسة قانونية مقارنة»، مجلة الشريعة والقانون – جامعة الإمارات العربية المتحدة، العدد التاسع عشر، ربيع الثاني 1424هـ/يونيو 2003م، ص 193 وما يليها.


– محمد محمد أبو زيد، «دور التقدم البيولوجي في إثبات النسب»، مجلة الحقوق جامعة الكويت، السـنة العشرون، العدد الأول ، مارس 1996، ص 223  ومايليها.


– مات ريدلي، «الجينوم»، ترجمة مصطفى إبراهيم فهمي، سلسلة عام المعرفة، العدد 275، نوفمبر 2001 .


– M.Christian CABAL, La valeur scientifique de l’utilisation des empreintes génétiques dans le domaine judiciaire , Rapport présenté au Sénat ( N  364) et à l‘Assemblée Nationale ( N 3121) le 7 juin 2001 , p.35 et 36.


– Dominique VIRIOT-BARRIAL, De l’identification d’une personne par ses empreintes génétiques, in “le droit de la biologie humaine: Vieux débats-nouveaux enjeux”, sous la direction de Alain Sériaux, Ellipses, Paris, 2000, P.81 et s.


– Gilbert HOTTOIS et Jean-Noël MISSA, Nouvelle encyclopédie de bioéthique, De Boeck Université, Bruxelles, 2001, P. 382.


– Jacqueline FLASS-DIEM, Filiation et preuve scientifique en droit anglais.., Petites Affiches, 3 mai, 1995, N.53, P. 103.


– Marie-Isabelle MALAUZAT, Le droit aux pouvoirs des données génétiques, Presse universitaire d’Aix-Marseille, 2000.


– N.-J.MAZEN, Tests et empreintes génétiques: du flou juridique au pouvoir scientifique, Petites Affiches, 14 déc.1994, P.73.


– Paul GAUGHAN et Peter D. MARTIN, Banques des données d’ADN en Grande-Bretagne, in “Les empreintes génétiques en pratique judiciaire”, sous la direction de Christin Doutremepuich, La documentation française, Paris, 1998, p.137 et s.


– Philippe ROUGER, Les empreintes génétiques, Que sais-je, PUF, N.3569, 1ère édition, 2000.


– Solange MIRABAIL, Les obstacles juridiques à la recherche de la vérité biologique en matière de filiation…, Dalloz, 2000, Doc., P. 146.


– Frédric SALAT-BAROUX, Les lois de bioéthique, Dalloz, Paris, 1998.


– Dictionnaire Permanent Bioéthique et biotechnologies, Empreintes génétiques, Mise à jour  36, 1er juin, 2004, P. 842 et s.


– ans d’empreintes génétiques, sous la direction de Christian Doutremepuich, la documentation française, Paris, 2001.


– Les empreintes génétiques , Revue Sciences et avenir , No 643 , septembre, 2000, P .43.


 المصدر: http://arab-ency.com


مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى